شمس القاهرة تبرق في صباحها هذه الأيام، باعتيادٍ لا يماشي دخول فصل الشتاء . . . كأنها تعري ظلال الأركان كلها، وتتروى وتطيل في بريقها، في انتظار رؤى عيون أهلها، فمن غير عيونهم، لن تحقُّ المعجزة.يصخب أهلها كعادتهم عند الغضب تحت تلك الشمس، ثم لسببٍ غير معلوم، يسكنون ويقصد كلٌ منهم بيته، يحمل أثقال المدينة على قسمات وجهه ثم يصمت في نومه.
***
تغيّر القاهرة رائحة غازها المسيل كلّ مرةٍ، فيتوه عنها كل بعيد وتعجز أمامها مناعة كل قريب. وحتى بعد انقضاء كل سحابة غاز وكل واحدةٍ من تلك الصدامات مع الأمن المركزي، تأبى رائحته أن ترحل سريعاً عن تراب الشوارع، الذي تستمر رياح المدينة في نثره في وجوه المارة، آبيةً أن تدع الذكرى ترحل وجوههم بسهولة.
هذه المرة، كأن المدينة كرهت نظافة شعور وهندام أغلبية زوار الميدان من الأغنياء بزيادة، فقد باعدت كل الشهور الماضية بين الميدان وهؤلاء الزوار كثيراً وتوحّشتهم ميادين المدينة؛ فزادت رياحها ونشطت في نثر تراب الشوارع كما لم تفعل من قبل.
***
ولايمنع الغاز عادة ولا ترابه أهل وسط المدينة من ارتشاف الشاي وتدخين شيشةٍ ممزوجٌ دخانها بلسع الغاز في مبتدأ حلقهم. يتفرجون بشهبٍ على مباراة الأهلي مع فريق هيروشيما الياباني، ويسمون اليابانيين بالـ"حواسب الآلية" وانتصار فريق الأهلي هو "ڤيروس" أصابها. نعم، في الكرة، نسمي الألمان أيضاً بالـ"ماكينات". وكل مباراةٍ هي في الأصل فرصة كسبٍ لأصحاب المقاهي لفرض تسعيرةٍ على الكرسي الواحد وقت المباراة أمام التلفاز، تتراوح بين جنيه واحد أو إثنين، فقد ملّ كسبهم من إفلاس الناشطين وفناني وسط البلد الشباب المعتاد.
***
يوم الصدامات الدامية أمام القصر الرئاسي، اغتمت شمس القاهرة وغيمت غيوماً ثقيلة؛ أطالت الغيوم ثباتها في السماء ولاحقتك أينما ذهبت في أرجاء المدينة البعيدة، من وسط البلد حتى مصر الجديدة حول القصر الرئاسي.
أبت الشمس الظهور ذاك اليوم وأمسكت الغيوم فرط عقدها طويلاً، كأنها تكاد أن تنسكب. لكنها لم تمطر، وجاء اليوم اللاحق بسماءٍ صافية هادئةً هدوء أهل المدينة المُنَكّس، بعد الصدامات الدامية المفجعة من الليلة الفائتة، ونسيت الغيوم أن تفرط عقدها.
***
كان دوي كل رصاصةٍ يفسخ نسيج قلب القاهرة الجميلة أكثر.
"كلموني أصحابي السلفيين النهارده علشان أروح أشارك معاهم أمام القصر،" قالها سائق التاكسي السلفي، الذي توجست عند الركوب معه لمرأى ذقنه السلفية الطويلة، "لكن أنا يابني عندي ست عيال، لو ما اشتغلتش يوم، مش هايلاقوا أكل ياكلوه،" قالها بمرارة وزوَّد: "تعرف؟ إمبارح، كان الشباب ومعارضين مرسي عاملين مظاهرات كبيره، والله يابني خفت أنزل أشتغل، خفت حد منهم يقول إن أنا مع الإخوان علشان ذقني ويكسرولي العربيه اللي حيلتي."
حدثني بعدها عن الجنة والنار، والشهادة وحكم القتلى، وسؤال الله للعباد في يوم الحساب. وحدثته أنا عن حزني وقلقي على دماء أخوة الدم الواحد.
***
"إحنا حاربنا مبارك النظام والتوريث وبعدين حاربنا مجلس مبارك العسكري ودلوقتي بنحارب إخوان مبارك المسلمين، كلهم مبارك،" قالها لي الحسيني أبو ضيف، الصحفي المصوِّر وعضو حركة "كفاية" بينما حمّلت عليه لوحة "كفاية" الصفراء أمام دار القضاء العالي في مظاهرة من أسبوعين. قابلته بعد هجوم الإخوان على تلك التظاهرة دعماً لمرسي، وعندما سألته عن سبب تأكده أنهم كانوا إخوان وليسوا فقط بعض البلطجية الكارهين للمظاهرات، قال لي: "أنا متأكد أنهم إخوان، فقد تعرفت على أحدهم، كنا شركاء في ذات الخيمة في التحرير أيام الثورة منذ مايقرب من عامين." يرقد الحسيني أبو ضيف الآن في المستشفى، يتأرجح على شفة الموت، متأثراً بجراح رصاص خرطوش أطلق على دماغه مباشرة من مسافة مترين في صدامات القصر الرئاسي.
***
وبعد تلك الليلة الحزينة من الصدامات، كأن المدينة آثرت طبق شفتيها واصطناع النسيان، فسكتت المدينة وهدأ أهلها وصمت حديثهم، فلم تسمع صوت نفير السيارات المعتاد في القاهرة وصخب المارة، كان الصوت الوحيد في المدينة هو صوت محركات السيارات تتقدم وتمر وتنتهي بهدوءٍ غير معتاد.
أما القمر، فلم تره القاهرة الجميلة من ليالٍ عدة ... وتحتاج سماؤها أن تمطر.